I. أهداف الدرس :
يهدف هذا الدرس إلى أن يتعلم الطالب في نهايته الأمور الآتية:
- تعرف على المرْسِل والمرْسَل والمرسل به
- إذا لم يستمع الإنسان إلى النصح لمدة طويلة يصبح غافلا
- مهمة الداعي البلاغ ويستمر فيه وإن حجده معظم الناس
- الغفلة والعناد هما أكبر مانع عن قبول الحق
- من الذي يستفيد من الإنذار والنصيحة
- أهمية ترك الآثار الصالحة بعد الموت
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12] |
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
I. وجه تسميتها:
سميت سورة يس لافتتاحها بهذه الأحرف الهجائية، التي قيل فيها إنها نداء معناه (يا إنسان) بلغة طي لأن تصغير إنسان: أنيسين، فكأنه حذف الصدر منه، وأخذ العجز، وقال: يس أي أنيسين. وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلّى الله عليه وسلّم، بدليل قوله تعالى بعده. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
II.سؤال وجواب
- الحكمة من الحروف المقطعة
…….وَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ الْجَارِحِيَّةِ مَا عُلِمَ مَعْنَاهُ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ كَمَقَادِيرِ النُّصُبِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ فِيهِ وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا آتِيًا بِمَحْضِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ الْفَائِدَةَ فَرُبَّمَا يَأْتِي بِهِ لِلْفَائِدَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ كَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ انْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ مِنْ هاهنا ولم يعلم بِمَا فِي النَّقْلِ فَنَقَلَهَا وَلَوْ قَالَ انْقُلْهَا فَإِنَّ تَحْتَهَا كَنْزًا هُوَ لَكَ يَنْقُلُهَا وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ، إِذَا عَلِمَ هَذَا فَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الذِّكْرِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَبْدُ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ غَيْرَ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ الْمَعْبُودِ الْآمِرِ النَّاهِي فَإِذَا قَالَ: حم، يس، الم، طس عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَفْهَمُهُ أَوْ يُفَهَّمُهُ فَهُوَ يَتَلَفَّظُ بِهِ إِقَامَةً لِمَا أُمِرَ بِهِ.(رازي)
والمراد من هذه الحروف المقطعة الهجائية كما سبق بيانه التنبيه، مثل ألا ويا، والإشارة إلى العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف تتركب منها لغتهم وكلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ حجة عليهم (الزحيلي)
- ما الحكمة من القسم؟
الْكُفَّارُ أَنْكَرُوا كَوْنَ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا وَالْمَطَالِبُ تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْقَسَمِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي الْإِقْسَامِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ تُوجِبُ خَرَابَ الْعَالَمِ وصحح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ»
ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يُصِيبُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ عَذَابٌ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَحْلِفُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنْزَالِ كَلَامِهِ عَلَيْهِ وَبِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا كَانَ يُصِيبُهُ عَذَابٌ بَلْ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ أَرْفَعَ شَأْنًا وَأَمْنَعَ مَكَانًا فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ اعْتِقَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَاذِبٍ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُتَنَاظِرَيْنِ إِذَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ وَغَلَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِتَمْشِيَةِ دَلِيلِهِ وَأَسْكَتَهُ يَقُولُ الْمَطْلُوبُ إِنَّكَ قَرَّرْتَ هَذَا بِقُوَّةِ جِدَالِكَ وَأَنْتَ خَبِيرٌ فِي نَفْسِكَ بِضَعْفِ مَقَالِكَ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ وَإِنْ أَقَمْتَ عليه صُورَةَ دَلِيلٍ وَعَجَزْتُ أَنَا عَنِ الْقَدْحِ فِيهِ، وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ بَيْنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ فَعِنْدَ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ هُوَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، لِأَنَّ السَّاكِتَ الْمُنْقَطِعَ يَقُولُ فِي الدَّلِيلِ الْآخَرِ مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلَا يَجِدُ أَمْرًا إِلَّا الْيَمِينَ، فَيَقُولُ وَاللَّهِ إِنِّي لَسْتُ مُكَابِرًا وَإِنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ وَلَوْ عَلِمْتُ خِلَافَهُ لَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَهَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْيَمِينُ، فَكَذَلِكَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا أَقَامَ الْبَرَاهِينَ وَقَالَتِ الْكَفَرَةُ: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ … وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سَبَأٍ: 43] تَعَيَّنَ التَّمَسُّكُ بِالْأَيْمَانِ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الدَّلِيلِ (رازي)
- ما المراد ب”يس”
قِيلَ فِي خُصُوصِ يس إِنَّهُ كَلَامٌ هُوَ نِدَاءٌ مَعْنَاهُ يَا إِنْسَانُ، وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ تَصْغِيرَ إِنْسَانٍ أُنَيْسِينٌ فَكَأَنَّهُ حَذَفَ الصَّدْرَ مِنْهُ وَأَخَذَ الْعَجُزَ وَقَالَ: يس أَيْ أُنَيْسِينُ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3] .(رازي)
- ما معنى الحكيم
فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ الْمُحْكَمِ أَنَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ.” والْحَكِيمِ” الْمُحْكَمُ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لِبُطْلَانٍ وَتَنَاقُضٍ، كَمَا قَالَ:” أُحْكِمَتْ آياتُهُ” وَكَذَلِكَ أُحْكِمَ فِي نَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ فَلَا يَلْحَقُهُ خَلَلٌ. وَقَدْ يَكُونُ” الْحَكِيمِ” فِي حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كا لأليم بمعنى المؤلم” (الرازي)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَيْ ذِي الْحِكْمَةِ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ ذَاتِ رِضًا أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَاطِقٌ بِالْحِكْمَةِ فَهُوَ كَالْحَيِّ الْمُتَكَلِّمِ (القرطبي)
الخلاصة : (1)المحكَم بعجيب النظم وبديع المعاني، (2) المحْكِم (3) ذي الحكمة،
- مناسبة العزيز الرحيم
وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ إِمَّا أَنْ يُخَالِفُوا الْمُرْسِلَ وَيُهِينُوا الْمُرْسَلَ وَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ الْمَلِكُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ عَزِيزًا أَوْ يَخَافُوا الْمُرْسِلَ وَيُكْرِمُوا الْمُرْسَلَ وَحِينَئِذٍ يَرْحَمُهُمُ الْمَلِكُ، أَوْ نَقُولُ الْمُرْسَلُ يَكُونُ مَعَهُ فِي رِسَالَتِهِ مَنْعٌ عَنْ أَشْيَاءَ وَإِطْلَاقٌ لِأَشْيَاءَ فَالْمَنْعُ يُؤَكِّدُ الْعِزَّةَ وَالْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ (رازي)
- لما ذا أكد قوله إنك لمن المرسلين؟
والتأكيد بالقسم واللام للرد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: لست مرسلا.
- مناسبة قوله ” لقد حق القول الخ”
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِرْسَالَ أَوِ الْإِنْزَالَ لِلْإِنْذَارِ، أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لَيْسَ عَلَيْهِ الْهِدَايَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْإِنْذَارُ وَقَدْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْمُنْذَرِينَ كَثِيرٌ (رازي)
- ما معنى مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ
أرسلناك بهذا التنزيل لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم الأقربون، في زمن الفترة، أو لتطاول مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. (المنير)
- معنى فهم غافلون
فَهُمْ غافِلُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْغَفْلَةِ، أَمَّا إِنْ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَلِّغُهُمْ شَرِيعَةً وَيُخَالِفُونَهُ فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعْذِيبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، وَكَذَلِكَ مَنْ خَالَفَ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ الرُّسُلِ يَسْتَحِقُّ الْإِهْلَاكَ مِنْ غَيْرِ بَعْثَةٍ، _(رازي)
- معنى :لقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
لقد حق القول على أكثرهم أي : وجب العذاب على أكثرهم فهم لا يؤمنون بإنذارك .وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره . (قرطبي)
- التمثيل في قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ….
. «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» بأن تضم اليها الأيدي لأن الغل يجمع اليد إلى العنق «فهي» أي الأيدي مجموعة «إلى الأذقان» جمع ذقن، وهي مجتمع اللحيين «فهم مقمحون» رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، وهذا تمثيل، والمراد أنهم لا يذعنون للإيمان ولا يخفضون رؤوسهم له..(الجلالين)
- التمثيل في قوله تعالى وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) يَكُونُ مُتَمِّمًا لِمَعْنَى جَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مَغْلُولِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَنْتَهِجُونَ سَبِيلَ الرَّشَادِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ فَيَنْقَادُونَ لَهُ لِمَكَانِ السَّدِّ وَلَا يَنْقَادُونَ لَكَ فَيُبْصِرُونَ الْحَقَّ فَيَنْقَادُونَ لَهُ لِمَكَانِ الْغُلِّ وَالْإِيمَانِ الْمُوَرِّثِ لِلْإِيقَانِ. إِمَّا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ أَوَّلًا فَتَلُوحُ لَهُ الْحَقَائِقُ ثَانِيًا وَإِمَّا بِظُهُورِ الْأُمُورِ أَوَّلًا وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ ثَانِيًا، وَلَا يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ أَوَّلًا لِأَنَّهُمْ مَغْلُولُونَ فَلَا يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ مِنَ الرَّسُولِ ثَانِيًا، وَلَا يَظْهَرُ لَهُمُ الْحَقُّ أَوَّلًا لِأَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِي السَّدِّ فَلَا يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ثَانِيًا وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمَانِعُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّفْسِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا، وَلَهُمُ الْمَانِعَانِ جَمِيعًا مِنَ الْإِيمَانِ، أَمَّا فِي النَّفْسِ فَالْغُلُّ، وَأَمَّا مِنَ الْخَارِجِ فَالسَّدُّ، وَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَرَوْنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي أَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُقْمَحَ لَا يَرَى نَفْسَهُ وَلَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا يَقَعُ نَظَرُهُمْ عَلَى الْآفَاقِ لِأَنَّ مَنْ بَيْنَ السَّدَّيْنِ لَا يُبْصِرُونَ الْآفَاقَ فَلَا تَبِينُ لَهُمُ الْآيَاتُ الَّتِي فِي الْآفَاقِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ:إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ [يس: 8] وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ هِدَايَتِهِمْ لِآيَاتِ اللَّهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ (رازي)
- لما ذا قال الله تعالى أنهم لا يؤمنون؟
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إنذارك إياهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، بسبب العتو والاستكبار.
- معياران لنفع الإنذار ما هما؟
إِنَّما تُنْذِرُ ينفع إنذارك. مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي (1) اتبع القرآن، و(2)خاف عقاب الله في السر والعلن، وإن لم يره، والغيب: أي قبل معاينة أهواله.
- أين تكتب الأعمالـ؟
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي نكتب في اللوح المحفوظ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة.
- ما معنى “وآثارهم”
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَآثَارُهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: آثَارُهُمْ أَقْدَامُهُمْ فَإِنَّجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بَعُدَتْ دُورُهُمْ عَنِ الْمَسَاجِدِ فأرادوا النقلة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ خُطُوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ فَالْزَمُوا بُيُوتَكُمْ»
وَالثَّانِي: هِيَ السُّنَنُ الْحَسَنَةُ، كَالْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ وَالْقَنَاطِرِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالْحَبَائِسِ الدَّارَّةِ، وَالسُّنَنُ السَّيِّئَةُ كالظلمات الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا ظَالِمٌ وَالْكُتُبِ الْمُضِلَّةِ، وَآلَاتِ الْمَلَاهِي وَأَدَوَاتِ الْمَنَاهِي الْمَعْمُولَةِ الْبَاقِيَةِ، وَهُوَ فِي معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» فَمَا قَدَّمُوا هُوَ أَفْعَالُهُمْ وَآثَارُهُمْ أَفْعَالُ الشَّاكِرِينَ فَبَشِّرْهُمْ حَيْثُ يُؤَاخَذُونَ بِهَا وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا
وَالثَّالِثُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ الْأَعْمَالُ وَمَا قَدَّمُوا النِّيَّاتِ فَإِنَّ النِّيَّةَ قَبْلَ الْعَمَلِ. وَآثارَهُمْ أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، كالعلم والكتاب والمسجد والمشفى والمدرسة، أو من السيئات كنشر البدع والمظالم والأضرار والضلالات بين الناس. (رازي)
- كل شيئ أحصيناه في إمام مبين
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِكَوْنِ مَا قَدَّمُوا وَآثَارُهُمْ أَمْرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ لَا يُبَدَّلُ، فَإِنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بما هو كائن فلما قال: نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا بَيَّنَ أَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كِتَابَةً أُخْرَى فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ إِذَا فَعَلُوهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَنَكْتُبُ لِأَنَّ مَنْ يَكْتُبُ شَيْئًا فِي أَوْرَاقٍ وَيَرْمِيهَا قَدْ لَا يَجِدُهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ فَقَالَ: نَكْتُبُ وَنَحْفَظُ ذَلِكَ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (رازي)
«إنا نحن نحي الموتى» للبعث «ونكتب» في اللوح المحفوظ «ما قدَّموا» في حياتهم من خير وشر ليجازوا عليه «وآثارهم» ما استنَّ به بعدهم «وكل شيء» نصبه بفعل يفسره «أحصيناه» ضبطناه «في إمام مبين» كتاب بيّن، هو اللوح المحفوظ. (الجلالين)
- مناسبة الخشية في خشي الرحمن بالغيب
وَقَوْلُهُ: وَخَشِيَ الرَّحْمنَ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الرَّحْمَةَ تُورِثُ الِاتِّكَالَ وَالرَّجَاءَ فَقَالَ مَعَ أَنَّهُ رَحْمَنٌ وَرَحِيمٌ فَالْعَاقِلُ/ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْخَشْيَةَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ نِعْمَتُهُ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ أَكْثَرَ فَالْخَوْفُ مِنْهُ أَتَمُّ مَخَافَةَ أَنْ يقطع عنه النعم المتواترة (رازي)
- مناسبة إنا نحيي الموتي لاخ
فِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الرِّسَالَةَ وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْمُكَلَّفُ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا ذَكَرَ أَصْلًا آخَرَ وَهُوَ الْحَشْرُ وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْذَارَ وَالْبِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ [يس: 11] وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِكَمَالِهِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: إِنْ لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَجْزِي الْمُنْذِرِينَ وَيَجْزِي الْمُبَشِّرِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَشْيَةَ الرَّحْمَنِ بِالْغَيْبِ ذَكَرَ مَا يُؤَكِّدُهُ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى (رازي)
- أسباب النزول
- سبب نزول آية “يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ: إلى لآ يؤمنون
أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
- سبب نزول آية: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا
( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ) نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين ، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه ، فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده ، فلما عاد إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى سقط الحجر ، فقال رجل من بني مخزوم : أنا أقتله بهذا الحجر ، فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر ، فأعمى الله – تعالى – بصره ، فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : ما رأيته ، ولقد سمعت صوته ، وحال بيني وبينه شيء كهيئة الفحل يخطر بذنبه ، لو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله تعالى : ” إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا.(البغوي)
- سبب نزول آية:إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى:
وأخرج عبد الرزاق عن أبي سعيد قال: شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم منازلكم، فإنما تكتب آثاركم» .
III. الدروس المستفادة
- (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ )القرآن الكريم كتاب ذو حكمة مشتمل على المعلومات النافعة ومحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
- (إنك لمن…) لو لم يكن لرسالة النبيِّ ﷺ دليلٌ ولا شاهدٌ إلا هذا القرآن، لكفى به دليلًا وشاهدًا على صدق الرسالة والرسول.
- (لتنذر قوما …)الغفلة سبب لدخول النار ، كثيرًا ما تحتاج الغفلة إلى الإنذار ، فعلى الداعي الإنذار مع التبشير
- (إِنَّا جَعَلْنَا – لَا يُؤمنون) الكبر أكبر مانع عن قبول الحق، الإنسان لا يصلح إلا إذا تخلى عن العناد
- (فهي إلى الأذقان): أطلق الله أرجل عباده وأيديهم ليمضوا في وجوه الخير ، فما بال أقوام يقيدون أنفهسم بأغلال المعاصي؟
- (إِنَّمَا تُنذِرُ …) لا بد من استمرار الدعوة رغم عناد المعاندين
- (إِنَّمَا تُنذِرُ …) للانتفاع بالوعظ لا بد من أمرين: قبول النصيحة وخوف الله في السر والعلن
- (فبشره بمغفرة ) إن رأى المؤمن أنه لا يستجيب للوعظ فهو على خطر عظيم، فليتب إلى الله
- ( وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ) المؤمن دائما يرجو رحمة الله ويخشي أن يفوت ما وعده الله له من الرحمة
- (إنا نحن نحيي..) ضاعف العمل الصالح قبل حلول الموت
- (وآثارهم) حث على ترك أثر يبقى بعد موته لأنه يكتب في صحيفته حتى بعد موته.
IV. للاستزادة: أهل الفترة
قال السيوطي: (فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام:
الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، ثم من هؤلاء:
من لم يدخل في شريعته كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل.
ومنهم من دخل في شريعة حق قائمة الرسم كتبّع وقومه.
الثاني: من بدل وغير وأشرك ولم يوحد وشرع لنفسه فحلل وحرم وهو الأكثر كعمرو بن لحي أول من سن للعرب عبادة الأصنام، وشرع الأحكام، فبحر البحيرة، وسيب السائبة ووصل الوصيلة، وحمى الحامي وزادت طائفة من العرب على ما شرعه أن عبدوا الجن، والملائكة، وحرقوا البنين، والبنات، واتخذوا بيوتاً جعلوا لها سدنة وحجاباً يضاهون بها الكعبة كاللات والعزى ومناة.
الثالث: من لم يشرك ولم يوحد ولا دخل في شريعة نبي ولا ابتكر لنفسه شريعة ولا اخترع ديناً، بل بقي عمره على حال غفلة عن هذا كله، وفي الجاهلية من كان كذلك.
فإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة الأقسام فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثاني لكفرهم بما لا يعذرون به.
وأما القسم الثالث: فهم أهل الفترة حقيقة وهم غير معذبين للقطع، كما تقدم.
وأما القسم الأول فقد قال ﷺ في كل من قس، وزيد: أنه يبعث أمة وحده، وأما تبّع ونحوه فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه ما لم يلحق أحد منهم الإسلام الناسخ لكل دين، انتهى ما أورده الأبي). ((الحاوي للفتاوي)) للسيوطي (2/ 202)